في مساء السابع عشر من يناير، كشفت البيانات الصادرة عن وزارة الخزانة الأمريكية ارتفاع قيمة حيازة المملكة العربية السعودية من سندات ا لخزانة الأمريكية بنحو 3.8 مليار دولار خلال نوفمبر الماضي لتصل إلى 149 مليار دولار.
في ذات الشهر بلغت حيازة الصين 1.176 تريليون دولار، بينما اقتربت الحيازة اليابانية من حوالي 1.08 تريليون دولار.
وبشكل عام وصلت القيمة الإجمالية لحيازات كافة الدول من السندات الأمريكية إلى 6.3 تريليون دولار، هذا طبعًا بخلاف ديون الحكومة الأمريكية العامة البالغة حوالي 14 تريليون دولار.
الأمريكان مدينون بعملتهم فقط وهذه ميزة لا تمتلكها أي دولة أخرى سوى الولايات المتحدة، أليس بوسعهم طباعة لنقل 60 مليار ورقة من فئة المائة دولار لسداد ديونهم للدول الأجنبية؟ ولكن إذا كانوا قادرين على سداد قروضهم بمجرد طباعة المزيد من المال فلماذا كانوا في حاجة إلى الاقتراض في المقام الأول؟
“ترامب”: نحن الأمريكيون بوسعنا طباعة المزيد من الدولارات
– “طباعة الأموال لسداد ديون البلاد” لماذا لم تخطر هذه الفكرة على بال أي مسؤول أمريكي أثناء بحثه عن حل لمشكلة الديون المتزايدة؟ في الحقيقة، هذه الفكرة خطرت على بال أحدهم، وهذا الشخص هو الرئيس الحالي للولايات المتحدة “دونالد ترامب”.
– في التاسع من مايو/أيار من عام 2016، قال “دونالد ترامب” في تصريحات لشبكة “سي إن إن”: “إذا ارتفعت أسعار الفائدة يمكننا شراء ديوننا مرة أخرى بسعر مخفض، بشرط امتلاكنا للسيولة الكافية”.
وأضاف “هؤلاء الذين يعتقدون أننا سنتخلف عن سداد ديوننا معتوهون.
نحن حكومة الولايات المتحدة. أكره أن أقول لك ذلك، ولكننا لا يمكن أن نتخلف عن سداد ديوننا لأنه بوسعنا طباعة المزيد من الدولارات.”
– اقتراح “ترامب” الذي يعتقد أنه عبقري وأنه يفكر خارج الصندوق هو في الحقيقة ينم عن جهل الرئيس الجمهوري بأبسط أساسيات علم الاقتصاد التي يعرفها أي شخص له علاقة بهذا المبحث.
باختصار، فكرة طباعة الولايات المتحدة للأموال من أجل سداد كل أو جزء من ديونها كارثية.
– نظريًا أو على الورق، يمكن فعلًا للولايات المتحدة طباعة الأموال لسداد ديونها، ولكن هذا الخيار غير ممكن أو مستحيل عمليًا لأنه سيؤدي إلى مشاكل أكبر بكثير.
في المقام الأول ستتورط البلاد في مستنقع التضخم المفرط، لترتفع أسعار السلع والخدمات بسرعة، ويدخل الاقتصاد في أزمة تتضاءل إلى جانبها أزمة 2008، إن لم يدمر.
– إذا تمت طباعة 6 تريليونات مثلًا لسداد حاملي السندات، سيؤدي هذا إلى زيادة الدخل القومي في كل مكان باستثناء الولايات المتحدة، ومن شأن ارتفاع الدخل أن يؤدي إلى ارتفاع الطلب الكلي على السلع التي يمكن شراؤها بالدولار، والتجار بطبيعة الحال سيقومون برفع أسعار السلع.
– القوة الشرائية للدولار ستنخفض انخفاضًا هائلًا، وهذا من شأنه أن يمثل ضغطًا على الصناعة الأمريكية التي ستضطر لدفع المزيد مقابل المواد الخام وقطع الغيار المستوردة، وبهذه الطريقة ستدخل البلاد في حالة ركود وستزداد البطالة بسبب رؤية العديد من الشركات أنه من المفيد لها الانتقال إلى الصين وأماكن أخرى حيث يوجد طلب جديد على منتجاتها.
– لكن الولايات المتحدة لن تغرق وحدها.
الصينيون مثلًا سيجدون أنفسهم في ورطة، وذلك لأنه على الرغم من أنه أصبح في أيديهم المزيد من الدولارات إلا أن تلك الدولارات لن تساوي نفس القيمة التي دفعوها عندما قاموا بشراء الديون الأمريكية.
– الصين تمتلك حاليًا 1.17 تريليون دولار من السندات الأمريكية، لنفترض أنها تستطيع شراء 200 حاملة طائرات بهذا المبلغ، بعد التضخم الذي ستحدثه خطوة طباعة الدولار، هذا المبلغ الذي يربو على التريليون دولار قد لا يمكنه شراء سوى 50 حاملة طائرات.
– لذلك طباعة المزيد من الدولارات قد تساعد الولايات المتحدة على سداد ديونها، ولكن هذا سيلحق الضرر بالاقتصاد العالمي بالكامل.
وحاملو السندات الأمريكية على الرغم من أنهم سيستردون أموالهم، إلا أنهم في الحقيقة سيحصلون على عملة قيمتها تهاوت نحو الأرض، أما أمريكا ذاتها فستدخل نفقا مظلما دخله قبلها بلد مثل زيمبابوي، وسنجد الأمريكيين يذهبون للتسوق حاملين حقائب نقود.
– لكن النقطة الأهم، هي أن وزارة الخزانة الأمريكية لن تستطيع الاقتراض مرة أخرى.
على سبيل المثال، سجلت الميزانية الأمريكية عجزًا قدره 139 مليار دولار خلال نوفمبر الماضي، وهذا العجز تم تمويله من خلال بيع السندات للمستثمرين والحكومات.
كيف يعمل النظام النقدي الأمريكي؟
– وزارة الخزانة الأمريكية هي من تقوم بطباعة الدولار، ولكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي هو من يتحكم في حجم المعروض النقدي من خلال سلطاته التي تمكنه من دعم دورة الائتمان والتحكم بأسعار الفائدة وباحتياطيات البنوك من العملة الأمريكية.
– بناء عليه، الفيدرالي من الناحية الفنية لا يقوم بطباعة الدولار المادي، ولكنه بدلًا من ذلك يقوم بإقراض البنوك ويحافظ على الاستقرار المالي من خلال تعديل نسب الحد الأدنى لاحتياطيات البنوك وأسعار الفائدة بغرض تحقيق التوازن بين الهدفين التوأمين: العمالة الكاملة واستقرار الأسعار.
– الكيان المسؤول عن طباعة الدولار والذي يشرف على مصلحة سك العملة هو وزارة الخزانة الأمريكية.
واعتبارًا من أغسطس 2015، يوجد هناك ما يقرب من 1.2 تريليون دولار نقدًا قيد التداول في الولايات المتحدة وخارجها.
– عندما تحتاج البنوك الأمريكية إلى النقد، تقوم بطلبه من الاحتياطي الفيدرالي، والذي يقوم بدوره بإيداعه إلكترونيًا في حسابات هذه البنوك بعد احتساب سعر الفائدة المناسب.
والبنوك من جهتها حينما يكون لديها فائض في النقدية تقوم بإعادته إلى الفيدرالي.
– الرئيس الأمريكي لا يمتلك السلطة التي تخول له الأمر بطباعة الدولار.
فقط مجلس الاحتياطي الفيدرالي هو من بإمكانه أمر مصلحة سك العملة التابعة لوزارة الخزانة بطباعة المزيد من المال.
– عادة ما يقوم الفيدرالي بإجراء مكالمة هاتفية واحدة سنويًا إلى مصلحة سك العملة يطلب خلالها طباعة كم معين من المال.
على سبيل المثال، أمر الفيدرالي مصلحة سك العملة في يوليو 2015 بطباعة حوالي 213 مليار دولار.
الفيدرالي يحدد مقدار الأموال التي يتم طباعتها سنويًا في ضوء هدفين اثنين: الأول هو مقدار الأوراق النقدية التالفة والتي لم تعد صالحة وتحتاج للاستبدال.
أما الثاني فهو توقع البنك لمقدار الأموال الإضافية التي تحتاج أن تكون في دائرة التداول ليتناسب المعروض النقدي مع النمو الاقتصادي.
الدولارات المطبوعة الموجودة بين أيدينا جميعًا لا تمثل فعليًا سوى حوالي 10% من إجمالي المعروض النقدي منها، و90% منها لا وجود لها سوى إلكتروني على الأنظمة الخاصة بالبنوك.
لماذا لا يطبعون الدولار ويوفرون مدفوعات الفائدة على الديون؟
– هناك فارق كبير بين المال الذي تحصل عليه الحكومة الأمريكية من خلال الاقتراض وبين ذلك الذي تقوم بطباعته.
فالدين هو تحويل للثروة المتراكمة من شخص إلى آخر، أما المال الجديد فهو ثروة تم إنشاؤها من العدم.
والمال الجديد يجعل قيمة القديم أقل، وهذا سيدفع الناس للتخلص من حيازاتهم النقدية بسرعة قبل أن تفقد قيمتها.
– لنفترض كما اقترح “ترامب” أن الولايات المتحدة يمكنها أن تقوم ببساطة بطباعة 6 تريليونات دولار مثلًا لسداد حاملي سنداتها.
بهذه الطريقة ستوفر الحكومة الأمريكية مليارات الدولارت التي تدفعها سنويًا لخدمة هذا الدين.
هذا يبدو جيدًا أليس كذلك؟
– لكن في ظل أن كل المتداول من الدولار عالميًا حاليًا يقترب من 1.2 تريليون دولار، سيرتفع حجم المتداول من العملة الأمريكية ليدخل دائرة التداول 4 دولارات مقابل كل دولار موجود حاليًا.
هذا السيناريو مخيف جدًا لأن هذا سيعني أن الدولار ستنخفض قيمته إلى ربع ما كانت عليه قبل دخول الأموال الجديدة إلى دائرة التدول.
– بعبارة أخرى، سيحدث تضخم مفرط، سعر أي شيء سيرتفع فجأة أربعة أضعاف. في تلك اللحظة ما سيقوم به الجميع هو البحث عن طريقة للتخلص من الدولار بأي شكل ومبادلته بعملات أخرى لا تزال تحتفظ بقيمتها أو من خلال شراء أصول مثل السيارات والعقارات والأسهم الأجنبية.
ما يميز هذه العملات والأصول هو أن المعروض منها محدود وهذا هو ما يفتقده الدولار في هذه الحالة.
– البنوك المركزية العالمية التي تحتفظ بجزء كبير من احتياطياتها بالدولار، ستهرع هي الأخرى إلى التخلص من العملة الأمريكية من أجل حماية قيمة تلك الاحتياطيات.
– لكن قد يجادل البعض بأن الفيدرالي أدخل إلى دائرة التداول النقدي تريليونات الدولارات عقب أزمة 2008، وهذه التريليونات لم تتسبب في خروج التضخم عن نطاق السيطرة ولم تؤثر بشكل سلبي على قيمة الدولار.
– في الحقيقة هناك نقطة مهمة لا يدركها الكثيرون، وهي أن هذه الأموال موجودة إلكترونيًا فقط وبقيت داخل النظام المصرفي الأمريكي.
الفيدرالي يتحكم في حجم المتداول من العملة من خلال تعديل أسعار الفائدة التي يدفعها للبنوك مقابل إيداع أموالها لديه.
هل تحتاج أمريكا إلى سداد ديونها؟
– بلا شك تستفيد الولايات المتحدة من حقيقة أنها مدينة بعملتها، على عكس اليونان مثلًا المدينة باليورو، ولكن ليس بهذه الطريقة.
ما لا ينتبه إليه أغلبنا أثناء التفكير حول هذه النقطة هو أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي لا تحتاج فعليًا إلى سداد ديونها، هي تحتاج فقط لضمان استمرار ثقة العالم في الدولار.
– الدولار الأمريكي يدعمه أكبر اقتصاد في العالم، وهذا هو السبب في أن الجميع ينظر إلى ديون الحكومة الأمريكية باعتبارها واحدة من أكثر الاستثمارات المتاحة أمانًا.
والحكومات الحاملة للسندات الأمريكية من جهتها لا ترغب بشكل رئيسي في استرداد ملياراتها المستثمرة بهذه السندات، هي فقط تريد أن تحافظ على قيمة أموالها.
– مرة أخرى، فكرة لجوء الحكومة الأمريكية إلى طباعة الدولار من أجل سداد ديونها هي خرافة أكثر منها خيار اقتصادي، وهذا يدركه أي طالب بالسنة الأولى في قسم الاقتصاد يهتم بدروسه.
0 التعليقات:
إرسال تعليق